التلوث
السمعي
لن يختلف إثنان أن الجميع أصبح يدرك ما يتردد على مسامعنا من تداعيات
''تغيرات المناخ'' و''التلوث البيئي'' بكل ما يحيطه الضرر،سواء تلوث الماء
والهواء والتربة والمخلوقات المتنوعة التي لا تعد ولا تحصى. حتى من كان
يجهل هذا الأمر لا يمكنه تجاهله حاليا خاصة وأننا نشهد حقيقة التغيرات
المناخية خلال اليوم الواحد عشرات الظواهر الطبيعية حول العالم. لكن اسمحوا
لحبري بالمقابل أن يترجل ليتعمق أكثر بأحد أخطر وأسرع أنواع التلوث والذي
يجهل تبعاته الكثير من مكونات مجتمعاتنا العربية ويتجاهلها البعض
الِآخر.
فليس هناك عاقل ينكر فضل شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الإجتماعي
وما تسخر له من خدمات للأشخاص والمؤسسات على حد سواء،وناهيك عن تسخير
الهواتف الذكية ومختلف الأجهزة التى تستثمر لعدة أغراض:
كفك العزلة عن
العالم وتقليص الوقت والمسافات عدا عن ذلك توفير إمكانيات معرفية
تيكنولوجية فائقة السرعة تفوق قدراتنا البشرية المتواضعة. كل ذلك يساهم في
سرعة إغراء وانسياق مختلف الفئات المجتمعية لهذه المسهلات التواصلية لتحقيق
تلك الغايات المهنية والإجتماعية بكل رغبة وإصرار والأخطر- دون التفكير
هنيهة- في تبعات سوء ترشيد واستثمار هذه الموارد التكنولوجية للتواصل
الإجتماعي الرقمي من طرف بعض الفئات المجتمعية وأخص بالذكر أولئك الذين
يستعملون وسائل التواصل الإجتماعي دونما هدف وقصد محدد غير تمضية وقت
الفراغ، اواستعماله بأماكن وأوقات غير مناسبة أولأهداف اجتماعية تتجاوز
احترام الآخر وحريته وراحته النفسية والجسدية. كيف يتجلى هذا بواقعنا
اليومي يا ترى ؟؟
إذ أن استعمال الهاتف الذكي كأصغر جهاز عملى بأيقوناته
المتعددة ـ على سبيل الإختصار لا على سبيل الحصرـ يسبب تلوثا سمعيا ينخر لب
الإنسان وراحته النفسية دون إدراك منه.كيف ذلك وماعلاقة ذلك التعاطي
السمعي بالراحة النفسية.
فإذا وقفنا لحظة لنتأمل حقيقة بسيطة، وهي كون لا
أحد منا يستطيع أن يقضي مهامه اليومية دون استعمال مبرمج أو فوري لوسائل
التواصل مثلها مثل وسائل النقل. فتخيلوا معي أن المرء يغادر بيته صباحا وكي
يصل إلى مقر عمله عليه باستعمال وسائل النقل مرتين ذهابا ومرتين إيابا
اوأكثر،وخلال مشواره هذا يستعمل هاتفه مرتين على أقل تقدير. كما أن من
يرافقه في النقل كالسائق وغيرهم من مستقلي تلك الوسيلة، فأحيانا يرافقه
أكثر من ثلاثون إلى مائة شخص بالنقل الحضري العمومي كالحافلة والقطار
وسيارات الأجرة بمختلف أحجامها.
إذا ما كنت مسافرا عبر القطار تستقبل
مسامعك أكثر من عشرون مكالمة وكل مكالمة تفوق أحيانا الساعة الساعتين عبر
الواتساب- حسب مكوثك بالنقل- بمواضيع مختلفة أكثر أوأقل أهمية من تفاصيل
حياتك الشخصية التي لم تنل بعد شرف مشاركتها العلنى.
فلوأن كل شخص من
هؤلاء استقبل بجانبك مكالمة صوتية أومكالمة فيديو عبر الواتساب أوغيره، فكم
من كلمة تلتقط مسامعمك خلال ذلك اليوم؟
هل يمكنك ظبط عدد المكالمات
والعبارات التي تنصت إليها يوميا- سواء كانت حميدة أم سيئة- عبر هذه
الوسائل الرقمية للتواصل التي تحدث من حولك ؟ هل تعلم أن دائرة تفكيرك تتسع
ويشتغل عقلك الباطن أضعافا ؟ وأحيانا تشتغل ذاكراتك القصيرة والمتوسطة
فالطويلة على حد سواء. تتحرك مواجعك فتصبح مشاركا مسسترا بمشاعرك وأفكارك
وذكرياتك في تلك الوضعية الواقعية للمكالمات التي لا تخصك أصلا وبعدها عليك
أن تنصت إلى كل المكالمات التي يجريها مرافقوك في الطريق ثم زملائك بالعمل
ثم بعد عودتك إلى بيتك ينتظرك أهلك سواء كنت أكثر أهمية بانتظارك. فأهلك
بالبيت ينتظرونك كل مساء لتجالسهم وتحاورهم وتنصت إليهم بكل مشاعر ومنطق
واهتمام.
فكيف لعقلنا البشري أن يتحمل هذا الكم المضاعف من المكالمات
والمواضيع والمناقشات والمنازعات أحيانا.والتي قد تستمر ثلاثون يوما وانظر
هل أنت حقا قادر على استيعابها كلها بكل صحة جسدية ونفسية؟
مثلا إذا سألت
نفسك الأن:هل تذكر كل تلك المواضيع التي سمعتها اليوم. (أب يعاتب ابنه على
عدم استئدانه له لقيادة سيارته وأم تسرد لابنتها أخبار عرس حضرته الليلة
الفارطة وطالبة تشرح لصديقاتها المحاضرة التي فاتتهم نهار اليوم وتاجر
يستشير زملاؤه عن نوع المنتوح الأفضل الذي يلاقي إستحسان الزبناء له وسائق
الطاكسي الذي يتدمر من ارتفاع سعر البنزين تخيل معي ...) المواضيع التي
كلها تناقش على الواتساب إلى حدود هذه اللحظة أنت لم تستقبل مكالمات العمل
الخاصة بك ولم تبدأ عملك بعد ...
يقول رسولنا الكريم عليه الصلاة
والسلام:'' لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه''. عن أنس رضي الله
عنه.
يقول إيف ميشالت: ''احترام الآخر هو للمجتمع ما هو زيت للمحرك''.
ولعل
أحد أهم مساوئ الهواتف الذكية والشبكة العنكبوتية أيضا فضح المستور.
فأصبحت أسرار الناس بخسة تشارك علنا دون مراعاة لأدنى القيم والمبادئ.
اندثار واضح للقيم مقابل النهم بالمجان. ألا يفقدنا ذلك الثلوث السمعى
طاقتنا للقيام بأشياء أكثر أهمية لنا ومحيطنا لأهلنا ومجتمعنا. إذ ظل المرء
معرضا للتعب والهشاشة النفسية والجسدية، يرغب في نوم أهل الكهف دون
استئذان. وهنا يتجلى الكسل وقلة المردودية من طرف الموارد البشرية في جميع
المجالات الحيوية انطلاقا من أخمص قدم- تلميذ بقسمه إلى أعلى الرأس- شخص
مسؤول بمهته.
ياترى ماهي طاقة تحملنا لهذه الضوضاء اليومية. أتراه هذا
الإستعمال السيئ،فقط تعبير عن انبهار بهذه الرقمنة التي تختصر المسافات أم
أنه حاجة إلى التعبير الذي يفسر تدهور أصول التواصل الأسري البناء، أم تراه
غياب اهتمام وسوء إنصات بالتواصل المباشر أم أن المجان المتاح يجعل المرء
يبخس مبادئه أخلاقه أسراره وتفاصيل حياته ويرجع به إلى الجهل بقيم التواصل
وشروطه وهنا لا بد من تأمل القولة المعروفة لصاحبها:
'' تنتهي حريتي عندما
تبدأ حرية الأخر''.
ترى لو كانت كل مظاهر التواصل الرقمية - المجانية
أوبخسة الأداء- هذه مؤدى عنها هل ستبقى هذه التفاصيل متاحة وفضفاضة؟
- وإلى
متى سيتم اللجوء إلى هذه الوسائل ككبسولات لمعالجة فوبيا التواصل المباشر؟
هل ستصبح أسرار الشخص من الواضحات والمفضحات ويشتكي بعدها لسبب انتشارها
وتداولها؟ هل سيتشارك الناس خصوصياتهم مجانا وأمام الملأ ويتسببون في تلويث
مسامع غيرهم؟ متى تنعم المرافق العمومية بستر الخصوصيات ونقاء الفضاءات؟
هل تجد تلك الفئة التي تستعمل وسائل التواصل الإجتماعي ضالتها:
- أمهات لا
يفقهن حروف الهجاء فيخضن تجربة هواتف ذكية بلغات أجنبية ومحتويات متنوعة
يعتكفن على مشاهدة كل ما يتاح على شاشات لا تفوق عشرات الستنمرات طولا..
ومثلهن مراهقين دون رقابة الأهل ومنهم جيل شباب بأكمله يمضى ساعات عجاف
بإمكانه أن ينال خلالها ديبلومات معترف به تخوله ولوج سوق الشغل بمهارة
وكفاءة..... والأكثر تعقيدا وتساؤلا أمهات الجيل الثالث اللواتي يناولن
أطفالهن الرضع تلك الهواتف واللوحات الذكية رغبة في تهدئة بكاء رضيع- بسبب
رغبته في قضاء حاجات فطرية –جهلا منهم أن ما يقبلن عليه هوتهدئة مؤِقتة
مقابل إدمان أبدي لا مفر منه.... والأمثلة للذكر لا للحصر، فمن منا تغييب
عنه هذه التفاصيل الواقعية بل وأغرب منها شتى....
فمتى تنعم أمتنا العربية
بحس المسؤولية؟ فهل لمن صنعوا هذه الأجهزة أدمغة فارهة ولنا صناديق فارغة؟
إلى متى هذه العشوائية وغياب التحسيس؟
- المغرب -
- المغرب -