لقد أوجب المسرح على جميع الموجودات، الإيمان بدينه، واتباع طرقه وطقوسه، بل واعتناقه عن قصد أو بغير قصد، بوصف المسرح ضرورة إنسانية، فلا يستقيم وجود الانسان إلا بمشاركته في هذه اللعبة الكبيرة. فالكل يتمسرح، بانخراطه في هذه اللعبة، المسرح إجابة على سؤال كيف نعيش؟ نبش في هشاشة الإنسان و ضعفه وخوفه، "..تلك الهشاشة التي تطفو على السطح كلما حاول السرد حجبها، هشاشة الذاكرة، هشاشة الحاضر، هشاشة إنسانية معززة بتأمل جمالي خالص...". * والحكي قاعدة متينة، عليها تبنى كل المبنيات، و فيها تنضج الأشكال الفنية وتتعافى، فجميعنا يحكي، بما فينا، الأشجار والرياح والماء... فلا يمكن أن ننكر وجود الحكائي في المسرح، هو حاضر بالفعل، كالملح في الطعام، معلن أو موار، فلباس الممثل يحكي، ونبرة صوته تحكي، والنور الذي يظهر دمعته يحكي، السلم الذي يزين الركح يحكي، فقط علينا أن نجيد الإصغاء لكل كائن يحكي.
ومنا من ينفي هذه الحقيقة، بل ويكذبها، ويكفر بنبوءة السرد، و يرى في المسرح ما لا نراه، و يحبسه داخل زوايا معتمة، ويلصقه صفات تحد من شمولية هذا الفن، و يعتبر حضور الحكائي في المسرح، ثورة و بدعة لا خير فيها. وهي في الحقيقة شر لابد منه.
والحق أننا على سبيل المثال لا يسعنا أن ننقل الأهرام إلى حديقة سانتياغو بطل رواية «الخيميائي» للكاتب كويللو، أو نشيدها من جديد، بحيث لا ينزع المنعطف السردي عن المسرحي كينونته. إننا لسنا أمام تثوير المسرح من خارجه بقدر ما نحن أمام استرجاع وتطوير الحكي المسرحي الذي تزامن ونشأته. فالحكي لم يغادر المسرح. صيغ الحكي هي التي اختلفت. ففي «ترياحين» للمسرحي المغربي محمد الحر، يحضر الحكي كما في «شوكة» وكذلك أعمال أمين ناسور، كمسرحية «تكنزا» وحتى خارج المغرب مع البناني وجدي معود وفالك ريتشر وكاسطوليتشي وغيرهم...
هنا الحكي يخترق المتن/العرض المسرحي كما في معظم الأعمال البعد حداثية ولكنه حكي بصيغة أخرى. حكي ليس بصيغة الحبكة المحكمة التي ترتكز على المرجعية الإيهامية وإنما حكي بمفهوم انفتاح الركح والكتابة على عوالم أوسع. إذ من الصعب بعد المجازر اليومية والحروب الفتاكة والتصفيات العرقية والدينية أن نحكي كما كنا نحكي في السابق. أصبحنا ك«جندي» فالتر بنيامين الذي عاد من الحرب فاقدا القدرة على حكي ما عاشه. تماما كما يصعب على معتقل سياسي عاش ثلاثين سنة في المعتقل أن يحكي ويسرد ما عاشه. نحن بالتالي أمام حكي آخر. حكي متشذر تتذاخل فيه أصوات الحاكي وأصوات الشخوص فيبرز التساؤل : من يحكي؟ أهي أنا الشخصية أم أنا الحاكي؟ السرد الذي عاد بقوة للمسرح يقتات من روافد أخرى كالرقص والسينما والصمت ولغة الألوان واستضافة الوثائق.
ثم حتى على مستوى التأليف المسرحي، قد نخاطر بالقول إن بداية الانعطاف الحقيقي نحو سردنة المسرح، كانت مع الكاتب والناقد المغربي، بمسرحية «بعد الحكي تموت اللقالق»* إننا أمام منعطف بدأ بالفعل يرسم مسارا جديدا للمسرح المغربي، منعطف يقوده مبدعون متمكنون من أدواتهم الإبداعية، المتجددة، والمجددة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. محمد الحر، رهانات السـرد و تجربة مسرح أكون – الرباط. التجارب المسرحية المغربية، الامتداد والتجديد، المؤتمر الفكري، مهرجان الهيئة العربية للمسرح الدورة الـ 13.
2. بعد الحكي تموت اللقالق، محمد أبو العلا، مطبوعات البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع – القنيطرة – 1995.
- المغرب -
إضافة من مجلة برشلونة الأدبية:
السخرية الهادفة: فن النقد والإصلاح الاجتماعي
مقدمة
السخرية الهادفة هي أحد أشكال التعبير الفني والأدبي التي تستخدم السخرية والنقد بذكاء لتحفيز التفكير وتسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية. يتميز هذا النوع من السخرية بأنه ليس مجرد تهكم أو استهزاء، بل يحمل في طياته رسالة عميقة تهدف إلى الإصلاح والتغيير. في هذا المقال، سنتناول مفهوم السخرية الهادفة، وأهميتها، وتاريخها، وأمثلة على استخدامها في الأدب والفن، ودورها في التأثير على المجتمع.
مفهوم السخرية الهادفة
تُعَرَّف السخرية الهادفة بأنها استخدام الفكاهة والنقد بأسلوب ساخر لتوجيه الانتباه إلى مشاكل وقضايا محددة، بهدف إثارة الوعي والدعوة إلى التغيير. تختلف السخرية الهادفة عن السخرية العادية في أنها تتجاوز حدود التهكم البسيط لتصبح وسيلة فعالة للنقد البنّاء. تتجلى السخرية الهادفة في أشكال متعددة، مثل الأدب، والمسرح، والفن البصري، والإعلام، وتعتبر أداة قوية لنقل الأفكار والآراء بشكل ممتع ومؤثر.
تاريخ السخرية الهادفة
يمكن تتبع جذور السخرية الهادفة إلى العصور القديمة، حيث استخدمها الفلاسفة والشعراء والنقاد كوسيلة للتعبير عن آرائهم وانتقاد المجتمعات والسياسات. في الأدب اليوناني القديم، برزت أعمال أريستوفانيس، الذي استخدم المسرحيات الساخرة لنقد السياسة والأخلاق الاجتماعية في أثينا. وفي العصور الوسطى، كان جيفري تشوسر يستخدم السخرية في "حكايات كانتربري" لتسليط الضوء على فساد الكنيسة والنظام الاجتماعي.
مع مرور الوقت، تطورت السخرية الهادفة وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الأدبية والفنية. في العصر الحديث، يمكننا أن نرى تأثيرها في أعمال العديد من الأدباء والفنانين، مثل جورج أورويل في "مزرعة الحيوان" و"1984"، حيث استخدم السخرية لتقديم نقد لاذع للأنظمة السياسية الشمولية.
أهمية السخرية الهادفة
تعتبر السخرية الهادفة أداة قوية في يد المثقفين والفنانين لعدة أسباب:
تحفيز التفكير النقدي: تساعد السخرية الهادفة الجمهور على النظر إلى القضايا من زاوية جديدة، وتحفزهم على التفكير النقدي والتحليل العميق.
تجاوز الرقابة: في بعض الأنظمة القمعية، يمكن للسخرية أن تكون وسيلة للتعبير عن المعارضة دون الوقوع في فخ الرقابة المباشرة، حيث يتم تمرير الرسائل النقدية بأسلوب غير مباشر.
جذب الانتباه: يتميز الأسلوب الساخر بأنه يجذب الانتباه ويسهل تذكره، مما يجعل الرسائل النقدية أكثر تأثيرًا وفعالية.
التخفيف من حدة التوتر: يمكن للسخرية أن تكون وسيلة للتعامل مع القضايا الصعبة والتخفيف من حدة التوتر الاجتماعي والسياسي، من خلال تقديم النقد بأسلوب فكاهي وخفيف.
أمثلة على السخرية الهادفة في الأدب والفن
الأدب
جورج أورويل: تُعَدّ روايتا "مزرعة الحيوان" و"1984" من أبرز الأمثلة على السخرية الهادفة في الأدب. في "مزرعة الحيوان"، استخدم أورويل الحيوانات لتجسيد الأنظمة السياسية الشمولية ونقد فساد السلطة. أما في "1984"، فقد قدم نقدًا لاذعًا للأنظمة القمعية من خلال تصوير عالم ديستوبي.
جوناثان سويفت: في كتابه "رحلات جاليفر"، استخدم سويفت السخرية لنقد المجتمعات الأوروبية في القرن الثامن عشر. من خلال مغامرات جاليفر في عوالم خيالية، استطاع سويفت تسليط الضوء على عيوب المجتمع والأخلاق والسياسة.
الفن البصري
بانكسي: هو فنان جرافيتي بريطاني يستخدم فن الشارع لنقل رسائل سياسية واجتماعية قوية. من خلال رسومه الساخرة، ينتقد بانكسي قضايا مثل الحرب، والسلطة، والاستهلاك المفرط. يتميز بانكسي بأسلوبه البسيط والمباشر الذي يجذب الانتباه ويثير الجدل.
جورج جروس: كان رسامًا وكاريكاتيريًا ألمانيًا استخدم فنه لنقد المجتمع الألماني في فترة ما بين الحربين العالميتين. من خلال رسومه الكاريكاتيرية، سلط الضوء على الفساد السياسي والاجتماعي، واستخدم السخرية للتعبير عن استيائه من الأوضاع القائمة.
المسرح
أريستوفانيس: يعد أريستوفانيس من أشهر الكتاب المسرحيين في الأدب اليوناني القديم، واستخدم السخرية الهادفة في مسرحياته لنقد السياسة والأخلاق في أثينا. مسرحيته "الضفادع" تقدم مثالًا رائعًا على كيفية استخدام السخرية لتوجيه النقد إلى الشخصيات السياسية والاجتماعية البارزة.
برتولت بريشت: كان بريشت كاتبًا مسرحيًا ألمانيًا استخدم السخرية الهادفة لنقد الأنظمة السياسية والاجتماعية. في مسرحيته "حياة غاليليو"، استخدم السخرية لنقل رسائل حول السلطة والحرية والعلم.
دور السخرية الهادفة في التأثير على المجتمع
تُعَدّ السخرية الهادفة أداة فعالة في إحداث التغيير الاجتماعي والسياسي، ولها تأثير كبير على الجمهور لعدة أسباب:
زيادة الوعي: من خلال تسليط الضوء على القضايا الهامة بأسلوب ساخر، تساعد السخرية الهادفة في زيادة وعي الجمهور بالمشكلات الاجتماعية والسياسية.
تحفيز الحوار: تثير السخرية النقاش والحوار بين الناس، مما يساهم في تبادل الأفكار والآراء وتعزيز التفكير النقدي.
تغيير السلوك: يمكن للسخرية الهادفة أن تحفز الأفراد على إعادة التفكير في سلوكهم واتخاذ مواقف جديدة تجاه القضايا المطروحة.
التأثير على السياسات: في بعض الأحيان، يمكن للسخرية الهادفة أن تؤثر على صناع القرار والسياسيين، من خلال الضغط الاجتماعي والنقد العلني.
الخاتمة
تُعَدّ السخرية الهادفة من أقوى أدوات النقد والإصلاح الاجتماعي، حيث تجمع بين الفكاهة والذكاء لتقديم رسائل نقدية بنّاءة. من خلال الأدب والفن والمسرح، استطاع المثقفون والفنانون استخدام السخرية الهادفة لتحفيز التفكير والنقاش، وزيادة الوعي بالقضايا الاجتماعية والسياسية. يبقى لهذا النوع من السخرية دور مهم في مجتمعاتنا الحديثة، حيث يساهم في التغيير والتقدم من خلال تسليط الضوء على العيوب والمشكلات بأسلوب ممتع ومؤثر.